نظريّة اللعبة | قصّة

حازم بدر | Getty

 

(1)

منوع اللعب في أثناء المحاضرة".

هكذا قالت لافتة معلّقة على قاعة في «كلّيّة الآداب» في «جامعة بير زيت». آنذاك، كان ثمّة أربعون طالبًا وطالبة في القاعة، يتوقّعون شخصًا غيري. الدكتور فهمي قطامش كان قد غاب لأسباب قاهرة، وبصفتي مساعد تدريس في مادّة «العلوم السياسيّة»؛ كان عليّ أن أغطّي تدريس هذه المحاضرة.

على مقاعد الطلّاب كان ثمّة دمى ’الباربي‘، وسيّارات السباق الصغيرة، وقطع الليجو والجنود الصغار، ومسدّسات الطقّيع، وغيرها الكثير من الألعاب. الألعاب المعتدلة الثمن كانت لعدد طلّاب العلوم السياسيّة، والقانون، والإدارة العامّة، أمّا الألعاب الباهظة الثمن فقد كانت لطلّاب قسم دراسات الألعاب في «كلّيّة علم الاجتماع».

هذه كانت أوّل محاضرة أعطيها للدفعة الجديدة من الطلّاب، وموضوعها كان ’نظريّة اللعبة الصفريّة في السياسة‘. بدأتُ أشرح لهم أنّ الحروب العالميّة والنزاعات الأهليّة تحدث عندما تتآكل مساحة المفاوضة والمساومة بين طرفين متنازعين؛ فيصبح انتصارك يعني هزيمتي والعكس صحيح؛ فلا يبقى إلّا الصدام المباشر. من ثَمّ ذكرتُ مثال الحرب العالميّة الثانية، الّتي كانت حربًا غير محدودة، لم تنتهِ إلّا بتدمير طرف من أطراف الحرب بشكل كامل، قبل أن أذكر أنّ نقيض اللعبة الصفريّة هو عندما تنازل الرئيس السوريّ شكري القُوَّتْلي عن الحكم؛ من أجل تشكيل الجمهوريّة العربيّة المتّحدة، وعندما أسّس الألمان والفرنسيّون «مجلس الحديد والفحم» الّذي شكّل نواة الاتّحاد الأوروبّيّ.

أستاذ سامي! أستاذ سامي! قاطعني أحد الطلّاب يحمل بيده اليمنى سيّارة لامبورجيني صغيرة: طيّب بِما إنّك بتشرحلنا بنظريّة اللعبة الصفريّة، قلّلي: شو لعبتك المفضّلة؟

- ليس لديّ لعبة. أجبته فحدثت بلبلة بين الطلّاب.

- كيف فش عندك ألعاب؟ معقول؟ ليش؟

- لأنّو أنا كـ سامي، ما في عندي لعبة.

- يعني إنت بتآمن إنّو الكبار بالعمر ما لازم يشيلوا ألعاب؟

- أنا بآمن إنّو أنا، سامي، ما في عنده رغبة في أيّ لعبة، وإنّو هاد خياري الشخصي.

- طيّب وولادك، لمّا يصير عمرك ستّين سنة وهمّ ثلاثين سنة، رح تتقبّلهم إذا بشيلوا ألعاب؟

- أنا مطوّل تَ أتجوّز وأجيب ولاد، أكيد مش مفكّر بالموضوع.

- إنت عَمّالك بتتجنّب بالإجابة. رح تتقبّل ولادك ولا لأ إذا لعبوا ألعاب بسنّ كبير؟

- شو رأيك ننهي الموضوع ونرجع على موضوع حصّتنا؟

 

(2)

الموضوع كلّه بدأ قبل عقدين، عندما حدثت أزمة اقتصاديّة أدّت إلى انهيار الأسواق الماليّة في أوروبّا والولايات المتّحدة، كانت نصيحة الخبراء الاقتصاديّين وعلم النفس أنّ العلاج الزهيد الثمن للصدمات النفسيّة، يكمن في الذهاب إلى متاجر الألعاب، وشراء لعبة والانهماك بها. وقد أدّى إقبال معظم الطبقة الوسطى الغربيّة على محلّات الألعاب، إلى أرباح خياليّة لشركات الألعاب الدوليّة. وظهر على «يوتيوب» ما يُسَمّى بمؤثّري الألعاب الّذين يصوّرون فيديوهات يفتحون فيها طرود الألعاب الجديدة الّتي وصلتهم.

وعندما اكتشف معظم المواطنين الأمريكيّين والأوروبّيّين أنّ الألعاب مريحة تساعد على الاسترخاء، ظهرت مدرسة جديدة في علم النفس تقول بأنّه ما كان علينا ترك ألعابنا قطّ، وأنّ الألعاب الّتي أحببناها في الطفولة، أو الألعاب الّتي لم يوافق أهلنا على شرائها، هي أكثر ما يعبّر عن هويّتنا. وبعدها شُكِّلَت أقسام دراسات الألعاب في كلّيّات علم الاجتماع الغربيّة، وهي نظريّة تقوم على أنّ العدالة والتغيير الاجتماعيّ سيتحقّقان في العالم لو أنّ كلًّا انشغل في لعبته. وانتشرت في عواصم العالم مسيرات ومظاهرات لمحبّي الألعاب، تُسَمّى مسيرات ’بون بون‘، أو مسيرات ’الأبطال الكبار‘، رفع فيها المتظاهرون شعارًا بأنّه بإمكاننا أن نكون كبارًا ونمتلك ألعابًا.

وعندما انْتُخِب في الولايات المتّحدة رئيس أمريكيّ محافظ، نعت حاملي الألعاب بالأطفال، ووعد جمهوره بتشكيل ’شرطة النوم المبكّر‘؛ لإجبار حاملي الألعاب على النوم قبل الساعة التاسعة مساء. انفجر الاستقطاب الجماعيّ في الدول الغربيّة، وأصبح هناك مَنْ يدعم اقتناء الكبار للألعاب، ومَنْ يرفض ذلك. وتشكّلت حركات اجتماعيّة جديدة تقوم على حماية حاملي الألعاب من الهجمة عليهم. وفي إحدى المظاهرات، رفع حاملو الألعاب دمية تلبس الثوب الفلسطينيّ، وقالوا إنّهم سيأخذون الألعاب منّا، تمامًا كما أخذوا فلسطين من الشعب الفلسطينيّ.

 

(3)

لدى وصولي إلى الجامعة في اليوم التالي، طلبت نسكافيه ثلاثة في واحد، من أحد أكشاك القهوة الموجودة على بوّابة الجامعة، وتوجّهت نحو «كلّيّة القانون». عند مجلس الطلبة، ناداني أحدهم؛ فإذا هو الطالب الّذي قاطعني في محاضرة البارحة، يحمل مسدّسًا بيده اليمنى. نظر إليّ نظرة حادّة، ووجّه المسدّس نحوي، وأطلق النار: 

Fire!

طخ طخ طخ طخ.

Don’t Move, Drop the Gun, Fire!

طخ طخ طخ.

Fire! Fire!

طخ طخ طخ طخ طخ طخ طخ.

 

تجاهلته، وذهبت إلى الكلّيّة؛ إلّا أنّه لحقني، وبات يكرّرها كلّ صباح. في يوم الخميس، آخر يوم في الأسبوع، انفجرت فيه على مسمع الطلّاب، وقلت له:

- أنت طفل، أنت صغير، أنت مش ناضج، أنت ولد، أنت بالعبري ييليد! إكبر، إنضج، من شان الله إكبر!

وفي عصر ذات اليوم، فُتِحَت لجنة تحقيق بحقّي؛ لأنّني نعتُّ أحد الطلّاب من حاملي الألعاب بـ "الولد الصغير". 

 

(4)

وصل الاستقطاب الاجتماعيّ، الناجم عن الدفاع عن حاملي الألعاب ومهاجمتهم، إلى بلادنا، قبل عامين تقريبًا. ذلك بعدما أعرب مدير شرطة نابلس أنّه يودّ تشكيل وحدة شرطيّة للنوم المبكّر، تُجْبِر حاملي الألعاب على النوم المبكّر قبل الساعة التاسعة؛ فأدّى ذلك إلى لغط كبير على وسائل التواصل الاجتماعيّ. بعدها بأشهر ظهر نقاش: هل يناسب مجتمعنا أن تحمل النساء مسدّسات الخرز والجنود الصغار، وأن يحمل الرجال ألعاب ’الباربي‘؟ وبعدها بأشهر، ظهرت حركة «عرائس فلسطين» الإسلاميّة، الّتي تدعو إلى أنّ الألعاب لا تليق بالرجال العدول، وأنّه، يا أختي المسلمة، دعيه يحمل مسدّسًا حقيقيًّا بدلًا من مسدّس الماء لكي يحميكِ، ودعيه يدلّلك كالطفلة، ويضعك في بيت يسوده التوادّ والرحمة كبيوت ألعاب الدمى، ويشتري لك بالفعل بيت لعبة دمًى، فيه غرفة جلوس صغيرة، وغرفة نوم صغيرة، وحمّام صغير، ومطبخ صغير.

وردًّا على ذلك، ظهر حراك «طالعين نلعب برّا»، الّذي أكّد حقّ جميع الأبطال الكبار في اللعب في الأماكن العامّة. ورفض هذا الحراك الوطنيّ تصوير دولة الاحتلال الإسرائيليّة ذاتها مكانًا آمنًا للعب. وقد أكّد قادة الحراك أنّ فلسطين لن تكون حرّة إلّا إذا كانت ’لعبة‘ لجميع الفلسطينيّين. وقد أصدرت صحافيّة لبنانيّة مقالًا في مجلّة «لعب»، بعنوان «ومَنْ قال إنّ القضيّة الفلسطينيّة حكر على مَنْ توقّف عن اللعب بالألعاب؟».

وقبل بضعة أشهر، أصدر كلٌّ من اتّحاد لاعبي ألعاب الفيديو، ولاعبي ألعاب الطاولة والشطرنج والأحاجي، بيانًا مشتركًا أعلنوا فيه أنّه قد طفح الكيل، وأنّهم قد تبرّؤوا في النهاية من حاملي ألعاب الأطفال. وقد جاء في البيان: "المونوبولي لعبة عريقة بحاجة إلى مهارات تفكير ومفاوضة معقّدة، أمّا ألعاب الفيديو، فهل شاهدتم أو لعبتم لعبة «The Last of Us»؟ (قصّتها قصّة فيلم بستاهل جائزة «الأوسكار»)، لهذا وجبت التفرقة بين ألعابنا؛ ألعاب الكبار، وألعابهم؛ ألعاب الصغار. نعم! لقد قلناها، هؤلاء صغار غير ناضجين، يطلبون منّا بطريقة أورويليّة أن نعترف بكبرهم، مع أنّ ألعابهم ألعاب أطفال، هذه فكرة متناقضة!".

وبناء على هذا التصريح؛ أصدرت مؤسّسة «بون بون» الفلسطينيّة بيانًا، أعلنت فيه أنّ هذا البيان عبارة عن عنف شعبويّ، غير مقبول ممّن يُفْترَض فيهم أن يكونوا حلفاءنا.

 

(5)

عدت إلى شقّتي في رام الله بعد أن عُلِّقَت أعمالي في الجامعة لمدّة أسبوع، فأخبرني شركاء السكن أنّ ثمّة طردًا وصلني من مدينة الناصرة. شعرت بغبطة هوّنت عليّ ذاك اليوم الغريب، لم أسمع أيّ أخبار عن صديق الطفولة إيليا منذ أشهر.

التقيت بإيليا قبل أكثر من عقدين، في مخيّم صيفيّ جمع طلّاب الصفّ التمهيديّ، في مدرسة من مدارس جنين، ومدرسة من مدارس الناصرة. حينذاك، لعبنا مع بعضنا بعضًا بالمسدّسات المائيّة، ومعسكرات الجنود الصغار، والمدن المصغّرة الّتي تحوي سوبرماركت صغيرًا، ومحطّة وقود صغيرة، مع مغسلة، وإطفائيّة، ومركز شرطة. تلك كانت أجمل الأيّام. بعدها لم أعد أهتمّ بالألعاب، وهو لم ينقطع عن حبّها، بات محبًّا للألعاب، مخضرمًا، يجمعها بشغف، خاصّة تلك الّتي انقطع إنتاجها منذ وقت بعيد. وعندما سافر إلى أمريكا، صوّر لي غرفة ألعابه الّتي لم يخبر الكثير من الناس عنها؛ فقد كان يحاول الحفاظ على خصوصيّته في كلّ الأوقات.

فتحت الطرد فوجدت رسالة من اليابان، ومجسّمًا لشخصيّة ’نامق‘ من مسلسل «عدنان ولينا»؛ فزادت سعادتي وغبطتي.

"عزيزي سامي،

لقد أرسلت هذا الطرد إلى أختي في الناصرة لكي ترسله إليك. اليابان كانت رائعة، أردت البقاء هناك أسبوعًا آخر؛ من أجل العثور على ’السندباد‘ و’ياسمينة‘، لكن ربّما يكون لديّ وقت المرّة القادمة. حالما وجدت هذه اللعبة قرّرت أن أشتريها لك؛ لأنّني أعرف أنّك تحبّ أعمال هاياو ميازاكي كثيرًا.

المحبّ

إيليا".

 

فتحت هاتفي بعدها، وأرسلت رسالة إلى إيليا:

"هل تعلم؟ كونك من محبّي الألعاب، هذا رقم عشرة أو عشرين من هويّتك بالنسبة إليّ، كونك صديق الطفولة هو أهمّ ما فيك يا صديقي".

 


 

فخري الصرداوي

 

 

كاتب وقاصّ من رام الله. يعمل في مجال القانون الدوليّ والعلوم السياسيّة، حاصل على الماجستير في العمل الدوليّ الإنسانيّ من «جامعة ديوستو» في إقليم الباسك. يهتمّ بالكتابة الساخرة من المجتمع التقليديّ، ومن ثقافة الصوابيّة السياسيّة على حدّ سواء.